أولًا: الدنيا في القرآن الكريم والسنة النبوية: من اللازم عقيدة، والواجب شريعة أن نعدِّل صورة الدنيا في قلوبنا وعقولنا من العرف الجاري إلى الشرع الرباني، حتى نتعامل معها كما هي، كما وصفها I، وكما تحدث عنها في (111) موضعًا.
وقد جاءت النصوص النبوية تؤكد كل ما جاء في القرآن الكريم من صور حقيقية للدنيا، وهذه بعض جوانب هذه الصور:
1- الدنيا متاع الغرور:
توصف الدنيا بأنها متاع في أكثر من ثلاثين آية، والمتاع كما قال ابن منظور المصري: هو كل شيء ينتفع به ويتبلّغ به، الفناء يأتي عليه؛ لذا سمي الذي يقطع إحرامه بين الحج والعمرة متمتعًا.
ومن تزوج امرأة متعة ففارقها بعد وقت؛ لأنه لا يريد إدامتها لنفسه، ومتعة الطلاق تكون مرة وتنقطع، ونقل عن الأزهري قوله: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} [غافر: 39]، أي بُلغة يتبلَّغ به لا بقاء له.
وهي فوق ذلك دار الغرور كما وصفها الله -تعالى- مرتين للدنيا وثلاث مرات للشيطان كما جاء في قوله تعالى:
- {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20].
- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5].
والغرور كما جاء في المعجم الوسيط هو كل ما غرَّ الإنسان من مالٍ أو جاه أو شهوة أو إنسان أو شيطان، وما يتغرغر به من الأدوية.
وفي لسان العرب لابن منظور الغرور من غرَّ يغرَّ غرورًا وغيرة فهو مغرور وغرير، أي خدعه وأطعمه بالباطل، والغرور عند الزجاج: الأباطيل، وهو الشيطان لأنه يغرُّ الناس بالوعد الكاذب.
يؤكد هذه المعاني أن الدنيا دار متاع زائل وغرور، قوله تعالى:
أ- {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14].
ب- {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77].
وتؤكد الأحاديث النبوية هذا المعنى أن الدنيا متاع زائل، ومن ذلك ما رواه مسلم بسنده عن عبد الله بن عمرو أن رسول اللهقال: "الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة"[1]. ومنه ما ربط فيه النبي بين حضارة الدنيا إضافة إلى نعيم الآخرة في الحديث الحسن الصحيح الذي رواه الترمذي بسنده عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله يقول الله: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
واقرءوا إن شئتم (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ), وفي الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، واقرءوا إن شئتم (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ), وموضع سوطٍ في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها، واقرءوا إن شئتم (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)"[2].
2- الدنيا دار لعب ولهو وزينة:
ورد في القرآن الكريم أن الدنيا دار لعب ولهو وزينة، ومن ذلك قوله تعالى:
- {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: ٣٢].
- {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: ٦٤].
وهذا يؤكد أنها ليست للاستقرار والحياة الدائمة، فهي مجرد لعب ولهو، وزينة خارجية لكن الفناء يلاحقها، والموت يتابعها، ولا يبقى منها شيء إلى الدار الآخرة إلا فني؛ لقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: 26, ٢٧].
وهكذا يجب أن تكون الدنيا في يد المؤمن لأنها تتركه أو يتركها هو، فإن كانت في يده خرجت بلا عناء، وذهبت بلا حسرة، أو مال عنها الإنسان إلى ربه مغتبطًا بما أعده الله له من منازل الصالحين؛ لقوله تعالى: {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} [يوسف: 109].
وفيما يلي نستعرض بعض صفات الآخرة في القرآن الكريم والسنة النبوية.
ثانيًا: الآخرة في القرآن الكريم والسنة النبوية:
ورد لفظ الآخرة في القرآن الكريم بنفس العدد الذي وردت به لفظ الدنيا (111) مرة، لكن للآخرة صفات كثيرة أهمها:
أولًا: الآخرة أطول زمانًا من الدنيا:
مما لا شك فيه من نصوص القرآن والسنة أن الآخرة هي الأطول زمانًا؛ لقوله تعالى:
- {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: ٦٤].
- {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} [الروم: ٥٥].
- قال: "والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه -وأشار بالسبابة في اليم- فلينظر بم يرجع"[3].
هذه النصوص تؤكد الحقيقة التي يجب أن ترسخ في عقل ووجدان كل منا أن الآخرة هي دار القرار، وهي الحياة السرمدية، ولا تساوي الدنيا ساعة من نهار الآخرة، ولا تزيد أيضًا عن حجم الماء الذي يحمله الإصبع الذي يغمس في البحر، هذه هي الآخرة تمتد أبد الدهر، ومن ساعاتها الأولى تتجاوز كل أيام الدنيا.
ثانيًا: الدار الآخرة خير لأصحاب الإيمان:
هناك نصوص تؤكد أن الآخرة خير للذين اتقوا، وأصحاب الإيمان والصدق مع الله تعالى، منها قوله تعالى:
أ- {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: ٣٢].
ب- {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [النحل: ٤١].
وتؤكد الأحاديث النبوية هذا المعنى في تصوير مدهش، كما رواه ابن ماجه بسنده عن أنس بن مالك، قال رسول الله: "يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الدنيا من الكفار، فيقال: اغمسوه في النار غمسة. فيغمس فيها، ثم يقال له: أي فلان، هل أصابك نعيم قط؟ فيقول: لا، ما أصابني نعيم قط.
ويؤتى بأشد المؤمنين ضرًّا وبلاء، فيقال: اغمسوه غمسة في الجنة. فيغمس فيها غمسة، فيقال له: أي فلان، هل أصابك ضر قط أو بلاء؟ فيقول: ما أصابني قط ضر ولا بلاء"[4].
وكذا الحديث الذي رواه مسلم بسنده عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله: "إني لأعلم آخر أهل النار خروجًا منها وآخر أهل الجنة دخولًا الجنة؛ رجلٌ يخرج من النار حبوًا، فيقول الله تبارك وتعالى له: اذهب فادخل الجنة.
فيأتيها فيُخيَّل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب، وجدتها ملأى. فيقول الله تبارك وتعالى له: اذهب فادخل الجنة. قال: فيأتيها فيخيَّل إليه أنها ملأى فيرجع، فيقول: يا رب، وجدتها ملأى. فيقول الله له: اذهب فادخل الجنة؛ فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها أو إن لك عشرة أمثال الدنيا.
قال: فيقول: أتسخر بي -أو أتضحك بي- وأنت الملك". قال: لقد رأيت رسول اللهضحك حتى بدت نواجذه. قال: فكان يقال: ذاك أدنى أهل الجنة منزلة[5].
هذه النصوص الكثيرة تؤكد أننا بحاجة لمراجعة أنفسنا في هذه الزيادة المضطردة في متاع الدنيا وزينتها، والتراجع في ثوابت الآخرة حتى صارت العبادات موسمية، وأداء الواجبات مزاجية، والصبر على الطاعات مسألة وهمية، والنَّهم بالملذات مسألة حتمية، هذه تعد من جهد البلاء الذي أصاب الكثير من الرجال والنساء.
فاجتهدوا في العبادة شهرًا واسترخوا أشهرًا، ونسوا أن الحديث الذي يهزُّ النفس من أعماقها، ويزيح عنها داء التسويف والتأجيل، والاسترخاء الطويل، وهو ما رواه أحمد بسنده عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله: "وإنما الأعمال بالخواتيم"[6].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] صحيح مسلم - كتاب الرضاع - باب خير متاع الدنيا المرأة الصالحة, حديث رقم (1467).
[2] سنن الترمذي - كتاب تفسير القرآن عن رسول الله - باب ومن سورة الواقعة, حديث رقم (3292).
[3] صحيح مسلم - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة - حديث رقم (2858).
[4] سنن ابن ماجه - كتاب الزهد - باب صفة النار - حديث رقم (4321).
[5] صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب آخر أهل النار خروجًا - حديث رقم (186).
[6] مسند أحمد - حديث أبي مالك سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه - حديث رقم (22328).
الكاتب: د. صلاح سلطان
المصدر: موقع الدكتور صلاح سلطان